“
في حديث خاص مع أحد الأصدقاء الاعزاء حول ما يثار عن مثلث حلايب وشلاتين اقترح أن أكتب هذا المنشور لتوضيح الأمر بالمراجع التاريخية.
كانت منطقة الجنوب الشرقي لمصر علي ساحل البحر الأحمر منطقة هامة ودائمة الاستغلال من قبل المصريين القدماء وحتي العصر الحالي ، لذلك ذكرها الكثير من المؤرخين علي مر العصور ، وغالباً ما كان ذكر تلك المنطقة الهامة يتزامن مع ذكر التجارة البحرية عموماً.
نقش الملك المصري ساحور رع أحد ملوك الاسرة الخامسة علي الطريق الصاعد لهرمه في منطقة أبو صير حملته علي بلاد بونت مصوراً أحداثها لكن مع الاسف الشديد لم ينجو من تلك النقوش سوي وصول السفن الي الميناء المصري ومنقوش بالهيروغليفية ميناء الجنوب ، وكذلك في حملة بونت الشهيرة التي أمرت بها ملكة مصر عنمت امون حتشبسوت والمصورة علي جدران معبد الدير البحري نشاهد خروج السفن وعودتها الي ميناء الجنوب أيضاً ، وفي حملة تحوتمس الثالث علي بلاد واوات وكوش يذكر أنهم تعدوا علي ميناء الجنوب وهذا يوضح أنه يوجد ميناء قديم يعرف بميناء الجنوب ولم توضح لنا النقوش مكانه بالتدقيق.
في عام ٢٧٥ قبل الميلاد أمر بطليموس الثاني فيلادلفوس ببناء ميناء جديد شمال الميناء القديم المعروف بميناء الجنوب وهذا الميناء تم تسميته ببرنيكي ام الملك بطليموس الثاني الذي هو الآن ميناء برنيس علي البحر الاحمر قرب مرسي علم واستمر هذا الميناء يخدم التجارة في البحر الأحمر حتي أواسط القرن الرابع الميلادي.
أما في العصور الوسطى فبدأ ذكر ميناء جديد هو ميناء عيذاب ( يقع في مثلث حلايب وشلاتين المصرية) وقد ذكره العديد من الرحالة والمؤرخين لما ينيف عن الأربعة قرون وكانت عيذاب هي طريق الحج البحري أثناء الحملات الصليبية واستمرت هي طريق الحج الوحيد لمدة قرنين من الزمان لحجاج مصر والمغرب والأندلس حتي انتهاء التواجد الافرنجي في الشام ، واستمر دور عيذاب حتي نقل الاشرف برسباي الدقماقي الميناء الرئيسي لمصر علي البحر الأحمر الي ميناء السويس .
واليكم شهادة المؤرخ تقي الدين احمد المقريزي عن عيذاب في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار : ” اعلم أنّ حجاج مصر والمغرب، أقاموا زيادة على مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة شرّفها الله تعالى، إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر الفسطاط إلى قوص ( محافظة قنا) ، ثم يركبون الإبل من قوص، ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب، ثم يركبون البحر في الجلاب ( نوع من السفن) إلى جدّة ساحل مكة، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة، يردون في البحر إلى عيذاب، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص، ومنها يردون مدينة مصر، فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر، أو يرد من قوافل التجار والحجاج، حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل، ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد، إلى أن يأخذها صاحبها.
وفي بحر عيذاب، مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة، في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر، فيقيمون هنالك أياما، ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر، وعيش أهل عيذاب، عيش البهائم، وهم أقرب إلى الوحش في أخلاقهم من الإنس، وكان الحجاج: يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب، فينزل إليهم التجار من جبالهم، فيكارونهم الجمال، ويسلكون بهم على غير ماء، فربما هلك أكثرهم عطشا، وأخذ التجار ما كان معهم، ومنهم من يضلّ ويهلك عطشا،والذي يسلم منهم يدخل إلى عيذاب، كأنه نشر من كفن.
ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصا على الأجرة، ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر، بل يقولون دائما علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح، وأهل عيذاب من البجاة.
ولهم ملك منهم، وبها وال من قبل سلطان مصر، وأدركت قاضيها عندنا بالقاهرة، أسود اللون، والبجاة قوم لا دين لهم، ولا عقل، ورجالهم ونساؤهم أبدا عراة، وعلى عوراتهم خرق، وكثير منهم لا يسترون عوراتهم، وعيذاب حرّها شديد بسموم محرق.”
* أزمة مثلث حلايب وشلاتين
الحدود المرسمة التي حددتها اتفاقية الحكم الثنائي للسودان المصرية بين مصر وبريطانيا عام ١٨٩٩ ميلادي ضمت المناطق من دائرة عرض 22 شمالا لمصر وعليها يقع مثلث حلايب داخل الحدود السياسية المصرية، وبعد ثلاثة أعوام في 1902 عاد الاحتلال البريطاني الذي كان يحكم البلدين آنذاك بجعل مثلث حلايب تابع للإدارة السودانية لأن المثلث أقرب للخرطوم منه للقاهرة ( قرار تنظيمي إداري في قطر واحد ).
في ١٨ فبراير عام ١٩٥٨ ميلادي ( بعد ٤٨ يوم من انفصال السودان الحالية عن مصر ) قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بإرسال قوات إلى المنطقة لمحاولة الحكومة السودانية التلاعب باتفاقية الحكم الثنائي وترسيم الحدود وقام بسحبها بعد فترة قصيرة إثر اعتراض الخرطوم وظلت المنطقة تحت الإدارة المصرية والسودانية المشتركة ضمنيا ( كل دولة تخدم رعاياها بدون تنمية حقيقية من أحد الأطراف).
ظهر النزاع إلى السطح مرة أخرى في عام ١٩٩٢ ميلادي عندما اعترضت مصر على إعطاء حكومة السودان حقوق التنقيب عن البترول في المياه المقابلة لمثلث حلايب لشركة كندية . فقامت الشركة بالانسحاب حتى يتم الفصل في مسألة السيادة على المنطقة ، أرسلت السودان في يوليو ١٩٩٤ ميلادي مذكرة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، تشتكي الحكومة المصرية بتسعة وثلاثين غارة شنتها القوات المصرية في الحدود السودانية، منذ تقديم الحكومة السودانية بمذكرة سابقة في مايو ١٩٩٣ ميلادي ( قامت الحكومة السودانية بتسليح عدد من قبائل البجاة لفرض بسط سيطرتها على المنطقة بالقوة).
رفض الرئيس المصري محمد حسني مبارك في ١٩٩٥ ميلادي مشاركة الحكومة المصرية في مفاوضات وزراء خارجية منظمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا لحل النزاع الحدودي. لاحقا وبعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في قمة أديس أبابا، اتهمت الحكومة المصرية نظيرتها السودانية بالتخطيط لعملية الاغتيال. فأمر مبارك بمحاصرة وطرد القوات السودانية من حلايب وفرضت الحكومة المصرية إدارتها الفعلية على المنطقة، في عام ٢٠٠٠ ميلادية قامت السودان بسحب قواتها من حلايب وقامت القوات المصرية بفرض سيطرتها على المنطقة منذ ذلك الحين وفي عام ٢٠٠٤ ميلادية أعلنت الحكومة السودانية أنها لم تتخلّى عن إدارة المنطقة المتنازع عليها ولم تهجرها أو تسلمها للمصريين وأكدت على تقديم مذكرة بسحب القوات المصرية إلى سكرتير الأمم المتحدة.
قام مؤتمر البجا في ولاية البحر الأحمر في السودان بتوقيع مذكرة لاسترجاع إدارة المنطقة للسودان، حيث أوردوا أن قبائل البجا التي هي أصول وسكان هذه المنطقة يعتبرون مواطنون سودانيون وفي عام ٢٠١٠ذ تم اعتماد حلايب كدائرة انتخابية سودانية تابعة لولاية البحر الأحمر ( في محاولة لفرض السيطرة السودانية علي المنطقة) وأقرّت المفوضية القومية للانتخابات السودانية حق التصويت في الانتخابات السودانية لأهالي حلايب باعتبارهم مواطنون سودانيون إلا أن سكان المنطقة من البشاريين انتقدوا تقاعس الحكومة المركزية في إتمام العملية.
قام الرئيس السوداني البشير بالتأكيد على سودانية حلايب كما قام مساعد الرئيس السوداني موسى محمد أحمد بزيارة للمنطقة تأكيد على سيادة السودان للمنطقة. ورد وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط علي تصريحات الرئيس السوداني بقوله أن الحدود الجنوبية لمصر معروفة وهي دائرة عرض ٢٢.
أُقيمت الانتخابات البرلمانية المصرية لعام ٢٠١١ في نوفمبر وشملت مثلث حلايب ونقلت صناديق الانتخاب إلى الغردقة بطائرة مروحية عسكرية مصرية لفرز الاصوات هناك
زار الرئيس المصري «محمد مرسي» السودان في إبريل ٢٠١٣ وجددت هذه الزيارة الجدل حول مثلث حلايب حيث أفاد مساعد الرئيس السوداني «موسى محمد أحمد» أن الرئيس محمد مرسي وعد الرئيس السوداني عمر البشير بإعادة مثلث حلايب إلى وضع ما قبل ١٩٩٥ ، فيما نفى المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية في القاهرة «السفير إيهاب فهمي» ذلك ووصف تلك الأنباء بأنها «إشاعة لا ترتكز على معلومات سليمة».
زار رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق صدقي صبحي السودان في أواخر شهر أبريل ٢٠١٣ وأوصل رسالة بلهجة حاسمة للمسئولين السودانيين تؤكد أن «حلايب وشلاتين» أرض مصرية خالصة، ولا تفريط فيها. لكن تظل حلايب منطقة متنازع عليها وقد لا تنتهي إلِا بتحكيم دولي .
اي شخص ذو عقل يستطيع أن يدرك أن التواجد المصري في تلك المنطقة ضارب في القدم والأهمية وتلك الأزمة لا تعدو محاولة لفرض السيطرة من خلال قبائل بدوية غير متحضرة واستغلالها لأخذ جزء عزيز من أراضينا المصرية.