متابعه : كارولين سمعان
مثلت قضية “سد النهضة” غصة في حلق المصريين منذ ذياع صيتها قبل أكثر من 5 سنوات، حيث تبني إثيوبيا سد عملاقًا في طريق المياه الذي يشق طريقه إلى مصر مرورا بالسودان قاطعا آلاف الكيلو مترات يروي ظمأ من يقابله إنسان كان أم حيوان، وأرض شق نصفها قبل أن يجدد طميها. الدكتور عباس شراقي – أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، يوضح أزمة سد النهضة من بداياتها كفكرة في العقول ثم رسمها على الورق حتى باتت أمرا واقعا تتفاوض مصر – الآن – حتى تتجنب أضرارا يقول خبراء – شراقي – منهم إنها حتما ستطول مصر. يرأس شراقي قسم الموارد الطبيعية بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية. ويقول في حوار مع مصراوي إن مصر تنازلت في 3 مناسبات مختلفة لصالح أثيوبيا غيرت مسارات المفاوضات بشكل جذري.
بداية.. حدثنا عن فكرة إنشاء سد النهضة؟
فكرة إنشائه تعود إلى دراسات أمريكية تم وضعها وقت العدوان الثلاثي على مصر عام 1958 من قبل شركة أمريكية لضرب مصر من ناحية منبع النيل، واستغرقت 6 سنوات خرج من رحمها سد النهضة الأثيوبي من بين 33 مشروعا في النيل الأزرق اقترحها المكتب الأمريكي. حمل سد الألفية في تلك الدراسة اسم سد بوردر(Border)، وتلك الدراسات ظلت حبيسة داخل خزينة دولة أثيوبيا إلى أن تم البدء في تنفيذ مشروعين لسدين في نهاية عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وتحديدًا عام 2009، ورغم أنه حاول الضغط دون جدوى.
لكن البعض يقول إن مبارك هدد إثيوبيا ومنع بناء سد النهضة في عهده؟
إثيوبيا أنشأت سدين –لكن ليسا بحجم سد النهضة- في ظل حكم مبارك ولم يستطع إثناء أديس ابابا عن بناء مشروعيها، فتجرأت أثيوبيا وشرعت في بناء سد النهضة في ظل عدم اتخاذ مصر أي موقف رسمي ضدها. ومتى شرعت إثيوبيا فعليا في بناء سد النهضة؟ البداية الفعلية لإنشاء سد النهضة في فبراير 2011 -وقت انشغال المصريين بثورة 25 يناير- وتم إسناد المهمة إلى شركة ساليني(Salini) الإيطالية بالأمر المباشر، وأطلقت عليه مشروع إكس(Project X)، وقامت بالفعل بوضع حجر الأساس للمشروع في الثاني من أبريل 2011، وقررت تغيير الاسم إلى سد الألفية الإثيوبي العظيم (Grand Millennium Dam).ثم تغير الاسم للمرة الثالثة في الشهر نفسه ليصبح سد النهضة الإثيوبي العظيم لبث الحماس لدى الشعب.
وماذا عن السعة التخزينية للسد؟
الدراسة الأمريكية الأولى في 1964 تحدثت 14 مليار متر مكعب – وهي الدراسة الأكثر جدية- إلى أعلن المسؤولون الإثيوبيون فجأة في 2011 -أثناء وضع حجر الأساس- عن أن السعة التخزينية المقررة للسد 74 مليار متر مكعب، وتلك السعة كارثية لأنها لا تستند على دراسات هندسية.
وكيف كان رد الجانب المصري؟
وقت تولي المجلس العسكري إدارة البلاد ورئيس الوزراء عصام شرف، دعت مصر والسودان إثيوبيا لتشكيل لجنة بدأت أعمالها في مايو 2012 وانتهت أعمالها مايو2013، وشُكلت اللجنة من 10 خبراء، مصريين وإثيوبيين وسودانيين و4 خبراء دوليين محايدين، وكانت مهمتها فحص ومراجعة الدراسات الإثيوبية الهندسية ومدى مراعاتها للمواصفات العالمية وتأثير السد على دولتي المصب السودان ومصر.
وإلى ما انتهت اللجنة؟
انتهت إلى أن الدراسات والخرائط الإثيوبية بدائية لا ترقى للمواصفات العالمية للسدود حيث تضمنت مشروع سد بأرقام مخالفة للواقع المخطط له، وهذا يوضح كارثية التغير المفاجئ لحجم سعة المشروع في 2011. وخلصت اللجنة بعدما رأت بدء بناء السد إلى عدة توصيات مهمة وعاجلة للغاية حيث نصت صراحة “تُوصي وبشدة”، تضمن 24 توصية مُلَخصَة في 3 محاور: دراسات هندسية: تتعلق بارتفاع السد وسعة تخزينه وأمان السد (أهم محور بالنسبة لمصر). دراسات مائية: تتعلق بمؤامة السد مع المياه التي يقف أمامها ونسب التسرب. دراسات بيئية: تتعلق بعمل دراسات اقتصادية واجتماعية وتأثير ذلك على الدول المحيطة بالسد. وقدمت اللجنة تقريرها الذي بحثه الرئيس الأسبق محمد مرسي مع القوى الوطنية في الاجتماع الشهير الذي عقد في 2013 وتم تسريبه. إلى أن حدثت أحداث 30 يونيو وانشغلنا عن تنفيذ تلك التوصيات.
ومتى فاقت مصر لإثيوبيا بعد 30 يونيو؟
كانت هناك اتصالات من وزارتي الخارجية والري خلال فترة رئاسة المستشار عدلي منصور لتنفيذ توصيات اللجنة، إلا أنها لم تصل لجديد إلى أن تقابل الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي في يونيو 2014 بالعاصمة مالابو عاصمة غينيا الاستوائية على هامش القمة الافريقية، وتحدثا عن تنفيذ التوصيات، فوافقت إثيوبيا لكن بشرط.
ما هذا الشرط؟
اشترطت إثيوبيا على مصر عدم الحديث عن تنفيذ “الدراسات الهندسية” -التي أوصت اللجنة تنفيذها بشدة لأنها الأكثر خطرا وضررًا على مصر- بحجة أنها شأن إثيوبي، ووافقت على تنفيذ التوصيات في المحورين البيئي والمائي.
وكيف كان الرد المصري؟
كانت مصر بين أمرين: العناد مع إثيوبيا أم استمرار التفاوض. آلت الضغوط الشعبية المصرية والآمال المعهودة على الرئيس السيسي إلى قبول مصر الشرط الإثيوبي الجريء والاكتفاء بعمل الدراسات البيئية والمائية دون الهندسية، ومن هنا كانت “القشة التي قصمت ظهر البعير” بعدما أتى أول تنازل مصري مؤثر أضعف الموقف المصري.
وما تأثير ذلك التنازل؟
لم تعد تخاطب مصر إثيوبيا بعد ذلك مطلقا عن الدراسات هندسية وتقليل ارتفاع السد وسعته التخزينية وتلك قشة أخرى قصمت ظهر الموقف المصري.
وماذا حدث بعد ذلك؟
في أغسطس 2014 تقابل الوفد المصري مع الإثيوبي، وبحثا تنفيذ التوصيات مجددًا فعادت إثيوبيا بشرط جديد وطلبت تشكيل “لجنة وطنية” من 12 مفاوض مقسمة الدول الثلاث “مصر – السودان – إثيوبيا” دون خبراء محايدين، لتنفيذ الدراستين البيئية والمائية، بدلا من “لجنة دولية” مثل اللجنة المثالية الأولى التي شكلت في 2012.
وما موقف مصر هذه المرة؟
وافقت مصر على الشرط الإثيوبي الثاني وتركت زمام الأمور مرة أخرى لإثيوبيا، ودشنت خارطة طريق للمفاوضات بحضور وزير الري السابق حسام مغازي على أن تُنَفذ الدراسات عن طريق مكتب استشاري يتم الاتفاق عليه على أن يعمل تلك الدراسات خلال 4 أو 5 أشهر.
وماذا حدث في 10 جولات من المفاوضات أجرتها “اللجنة الوطنية”؟
الـ 9 جولات التفاوضية الأولى أجراها وزير الري ضمن لجنة عُرفت باللجنة الوطنية وكانت تتضمن وزراء الري فقط، ولم تُعقد الجولة العاشرة بحجة عدم التحضير المسبق لها وطلبت إثيوبيا إنضمام وزراء خارجية الدول الثلاث، واجتمع الوزراء الستة مرتين خلال شهر ديسمبر الماضي كتحضير للجولة العاشرة خلال ديسمبر ولم يصل الاجتماع لنتيجة سوى تأكيده الاحترام على احترام مبادىء اجتماعات سد النهضة التي اجرتها اللجنة الوطنية، فضلا عن اختيار مكتب شركة “آرتليا” الفرنسية مكانا للمكتب الهولندي الذي انسحب من عمل الدراسات.
لماذا انسحبت الشركة الهولندية التي اختارتها مصر عن عمل دراسات السد؟
بعد الاتفاق على تنفيذ توصيات اللجنة الدولية على اجراء الدراسات البيئية والمائية للسد، اختارت مصر الشركة الهولندية “دلتا رس” بينما اختارت إثيوبيا شركة “بي آر إل” الفرنسية التي تعمل على أراضيها من 15 عاما، وخلال إحدى جولات المفاوضات في سبتمبر العام الماضي أصرت إثيوبيا أن تتحكم الشركة الفرنسية -التابعة لها- في عمل الشركة الهولندي. واشترطت إثيوبيا أن تضع الشركة الفرنسية دون الهولندية التقرير النهائي للدراسات فضلاً عن إعطائه نسبة 30 في المئة فقط من إجراء الدراسات رغم أنَّ خبرته تفوق المكتب الفرنسي في إجراء الدراسات مع منح المكتب الفرنسي الأقل خبرة في مجال هندسة السدود 70 في المئة من نسبة إجراء الدراسات. والشركة الفرنسية تعتبر إثيوبية من حيث المنفعة، فضلاً عن أنَّها تأمل في الحصول على أعمال أخرى في المستقبل، نظرًا إلى الخطط المتوقعة لإثيوبيا لبناء 30 سدًا آخرًا، وهي تعمل حاليًّا في مشروعات لري الأراضي الزراعية حول بحيرة تانا بمساحة 25 ألف فدان، وبالتالي لن تكون محايدة، ولن تضحي بمصالحها مع إثيوبيا، ولذلك تمسكت الأخيرة بهذه الشركة رغم أنَّ الشركة الهولندية الأكثر خبرةً في مجال السدود حيث أنَّ لديها خبرة تزيد على 100 عام في هذا المجال. وزير الإعلام الإثيوبي في حوار منذ شهر تحدث عن الانتهاء من 70 في المئة من أعمال السد ومن يضار ليس شأننا.. ما تعليقك؟ الوزير الإثيوبي تحدث بطريقة غير دبلوماسية بالمرة لكن في حقيقة الأمر ما قاله يحدث بالفعل وصحيح، فإثيوبيا ماضية في بناء سدها وما آلت إليه المفاوضات حتى الآن ليس في صالح مصر ولن تُلزم دراسات المكاتب الاستشارية الجانب الإثيوبي بعمل أي شي.
وما الذي وضعنا في ذلك الموقف؟
مثلما تحدثت في السابق خلال فترة 7 سنوات منذ بدء فكرة إنشاء سد النهضة، مرت مصر بظروف ثورتي 25 يناير و30 يونيو شغلتها عن اتخاذ الموقف السليم والانتباه إلى ما يجرى في الهضبة الإثيوبية، فضلا عن التنازلات التي قبلتها مصر خلال مدة التفاوض. وكان من الضروري على المسوؤلين المصريين منذ البدء في بناء سد النهضة، التحرك في جهتين: دوليًا عن طريق تسجيل “موقف دولي” بالتقدم بمذكرة اعتراض رسمي إلى الأمم المتحدة بما تفعله إثيوبيا ما بناء سد سيضر بمصر، وتفاوضي مع إثيوبيا في السد. وانتهى إلى أننا رغم مرور 5 سنوات على بدء بناء السد إلى أننا لم نسجل موقف دولي عن الأزمة. وللعلم عند بناء السد العالي سجلت إثيوبيا اعتراضا دوليا فلماذا لم نفعل مثلما فعلت؟
وكيف نخرج من هذا المأزق من وجهة نظرك؟
مع الأسف حتى الآن لم نشرح للمجتمع الدولي الأزمة، ولم نُطلع العالم على الاتفاقيات، والطامة الأخرى أن تقرير اللجنة الدولية التي قيمت السد في 2012 لم تكشفه الحكومة المصرية لكننا كخبراء اطلعنا عليه عن طريق تسريبه من مواقع بحثية أمريكية، رغم أن التقرير يدين بشدة إثيوبيا واجراءات بناءها للسد التعسفية. ولدينا 4 اتفاقيات مع إثيوبيا في أعوام 1892 و 1896 و1902، 1993، تثبت حقنا ولابد من الاستعانة بها وأن نشرح للعالم موقفنا لتفادي بناء مشروعات سدود أخرى ستشكل خطرًا على مصر.
وماذا عن أحاديث إنهيار السد فور تشغيله؟
اللجنة الدولية المشكلة في 2012 حسمت الأمر أن الدراسات الهندسية الإثيوبية غير مدروسة وتعجل وتؤكد إمكانية إنهياره فور تشغيله.
وماذا عن دور إسرائيل في إفريقيا؟
إسرائيل تعلب دورا خطيرا هناك ليس دورها؛ نكاية في مصر، وتضخ أموال ودعم كبير إلى الدول الإفريقية للتضييق على مصر والتحكم في مياهها. ولن تستطيع مصر وحدها حيث تعاني من أزمات اقتصادية من ضخ الأموال التي تضخها إسرائيل في إفريقيا ودولها التي تشتاق إلى الدعم من كل جهة. ولابد من دعم عربي وخليجي لمصر في إفريقيا.
وماذا عن الفقر المائي الذي يقول خبراء إن مصر تعاني منه؟
تعاني مصر من أزمة مائية على مستويين حيث هناك فقر مائي من ناحية الأرقام حيث يبلغ نصيب الفرد حوالي 620 متر مكعب عن عام 2016، حيث يصل خط الفقر الطبيعي العالمي –الحد الآمن- باستهلاك الفرد إلى 1000 متر مكعب. الأرقام ليست مبررا للمسؤولين، لكن العبرة بإدارة واستخدام تلك المياه والتي تحت عاتق وزارة الري. إسرائيل تعاني من فقر مائي حيث يبلغ نصيب الفرد من المياه بها 200 متر مكعب لكنهم في نفس الوقت تصدر غذاء وكذلك الكويت نصيب الفرد بها 100 متر مكعب ولا تعاني من أزمة. وعن الدول التي تتوفر فيها المياه مثل الكونغو حيث يبلغ نصيب الفرد 30 ألف متر مكعب وفي ذات الوقت من أفقر دول العالم. ومشكلة نقص المياه في مصر هي سياسة استخدام مصادر المياه والتي تعد تحدي يواجه الحكومة ليست وزارة الري وحدها، عن طريق التوعية وتطبيق القانون.. ومن العار على وزارة الري أن تعاني أرض الدلتا من العطش مثلما حدث في أزمة الأرز.
هذا الخبر منقول من : مصراوى