fbpx
اخبارمنوعات

وطن قومى لليهود نتاج الحرب العالمية الثانية

وطن قومى لليهود نتاج الحرب العالمية الثانية

وسط الحرب تتخذ السلطات العثمانية في الشام إجراءات تعسفية ضد العرب خوفا من تمردهم، مما يعجل بمثل هذه التمردات، كالعادة دائما يأتي العنف بنتائج عكسية، وفي مكة يهاجم “الأشراف” القوات العثمانية ويسيطرون على مكة والحجاز، وتبقى المدينة المنورة تحت سيطرة العثمانيين، وعلى الجبهة المصرية وبعد هزيمتين للبريطانيين في غزة أمام العثمانيين، تقع غزة في أيدي الجنرال اللنبي الذي تم تعيينه حديثا ويستطيع تغيير مسار الحرب بالفعل، وتتجه القوات البريطانية للقدس، وقبل شهر من دخول القدس يرسل بلفور رسالة إلى روتشيلد ستكون الأشهر في هذا النزاع، ونصها:

 

وزارة الخارجية … في الثاني من نوفمبر ۱۹۱۷

 

عزيزي: اللورد روتشيلد

 

يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته:

 

“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتي بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة بفلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.

 

وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.

 

المخلص

 

آرثر بلفور

 

وبعد الحرب يعقد فيصل ابن الشريف حسين، اتفاقية “فيصل – وايزمان” التي تتوافق مع وعد بلفور شكلا ومضمونا،- لابد أن نضيف هنا من أجل توخي الأمانة أن نص بلفور -الذي نقله هو جارث للشريف حسين- كان خاليا من فكرة وطن مستقل وفهم منه الملك السماح لليهود بالهجرة الحرة إلى فلسطين، ولم تكن الحرب قد انتهت بعد، عندما عيّنت بريطانيا أول مندوب سامي لها في فلسطين عام 1920 وهو اليهودي هيربرت صمويل الذي يفتح فلسطين أمام اليهود المهاجرين من ناحية، ويرفع القيود التي فرضتها السلطة العثمانية على بيع الأراضي لليهود.

 

دعنا نضيف ملحوظة هنا، يرسل سلفان ليفي وهو فرنسي يهودي يمثل مصالح الفرنسيين في فلسطين، يرسل برقية في 8 فبراير 1918 يستخدم فيها كشخص غربي لأول مرة تعبير متمايز – يفرق – بين سوريا وفلسطين، وبين السوريين والفلسطينيين، ويذكر أيضا: “ومن ثم فقد ظهر سخط في صفوف الفلسطينيين. إنهم لا يمكنهم أن يقبلوا أن مبدأ القوميات، الذي يقول الحلفاء إنهم أنصار له، يمكن أن ينطبق على اليهود فيما يتعلق بفلسطين بدعوى أنهم قد سادوا فيها لمدة أربعمائة أو خمسمائة سنة، قبل عشرين قرنا خلت، معتبرين أن العالم برمته من شأنه أن ينقلب لو جرى النظر إلى الأمور بهذه الطريقة. وقد استغربوا بالأخص من رغبة الحلفاء في فصل فلسطين عن بقية سوريا وإضافة سبب جديد للشقاق إلى الأسباب، والتي تدمر بالفعل هذا البلد”.

 

 

ونضيف أن الفرنسيين والبريطانيين ظلوا لسنوات طويلة يخاطبون التجمعات العربية أن هذا الوعد –وعد بلفور- لا يزيد عن “..ما هو أكثر من منح اليهود حق الإقامة في البلد والحق الانتخابي”، هذه الجملة مثلا على لسان الجنرال كلايتون إلى اللجنة السورية العربية بالقاهرة. العجيب أيضا أن أكثر الدول حذرًا في الاعتراف بوعد بلفور أو تعضيده كانت الولايات المتحدة الأمريكية.

 

يرأس حاييم وايزمان لجنة صهيونية لزيارة فلسطين، ويمكث بها بضعة أسابيع، ويلتقي الأمير فيصل؛ اللقاء الذي ينتهي باتفاقية “فيصل وايزمان”، ثم يتجه إلى مصر في طريقه إلى أوربا، في هذه الرحلة يضع مقدرات الطائفة اليهودية في فلسطين تحت إدارة اللجنة الصهيونية في كل التعاملات الخارجية، ويحاول خداع العرب بأن الهدف هو حقوق مواطنة متساوية للجميع في فلسطين، ومن ناحية أخرى كل ترتيباته مع البريطانيين على تكوين دولة يهودية مستقلة. قد يكون أبلغ دليل على ذلك هو تكوين (كتيبة الرماة الملكية رقم 40) حيث يرمي منظموها إلى المشاركة مستقبلًا في تحرير أرض الأسلاف بما يتماشى مع تصريح بلفور –بالنسبة لليهود هو ليس وعدا- وهي المرحلة التي ستتم عندما يُصبح اليهود أغلبية.

 

تحدث مناوشات خفيفة بين العرب (مسلمين ومسيحيين) وبين اليهود بسبب قيامهم بمظاهرات احتفالية في ذكرى وعد (تصريح. رسالة) بلفور.. هل تستحق رسالة وسط آلاف الرسائل السياسية في حرب عالمية الاحتفال؟!!!!

 

في 4 نوفمبر –بعد يومين من المظاهرة الاحتفالية – يذهب الأعيان المسلمون والمسيحيون إلى ستورس وهو الحاكم العسكري للقدس من قبل بريطانيا، وقدموا له احتجاجًا مكتوبًا، وقالا نصًا: “حتى لو تعين علينا إراقة دمائنا، فسوف نعارض أن يصبح اليهود سادة لفلسطين وأن يسيطروا على القدس”.

 

 

الوضع السياسي الآن به بعض الفوضى، دعنا نحاول التوضيح. ترى بريطانيا أن “سايكس بيكو” عفا عليها الزمن بسبب التغيرات الجارية، ومصلحتها كدولة مع الملك حسين، فرنسا تدعم دعاة القومية العربية حتى تسيطر على سوريا بحسب العاهدة، هؤلاء القوميين يريدون حكمًا ذاتيًا، ومنقسمون فيما بين تبعيتهم للحجاز كخلافة إسلامية، وآخرون يردون دولة عربية قومية تشمل الشام وبلاد الرافدين، بعيدا عن شبة الجزيرة العربية، بينما ساسة المنظمة الصهيونية ومنظروها يتمسكون بفكرة وطن قومي؛ أي سيطرتهم الفعلية على فلسطين، وذلك لن يتم إلا أن يصبحوا أغلبية في فلسطين يعقبها مناوشات وعنف تستدعي فكرة حق تقرير المصير وبالتالي أغلبيتهم تنتصر وتجد رعاية دولية

10

في يافا تنبثق جمعية إسلامية – مسيحية مواكبة للأوضاع السياسية، لا نعرف تاريخ تكوينها، ولكنها أرسلت احتجاجا على احتفلات اليهود بذكرى وعد بلفور، وأشارت إلى أن فلسطين بلد عربي، وأن العرب فيها تزيد أعدادهم عن اليهود ثلاثين مرة على الأقل وأن اليهود ليس لهم أي حق في البلد، وأيضا: “كيف سيكون الوضع إذا طالب العرب بالأندلس؟”، وتطالب بحكم ذاتي في القدس، ويحدث أمر مشابه ولكن عبر جمعية القدس التي تطالب بضم فلسطين لسوريا وإعلان الشريف حسين خليفة للمسلمين.

 

ووسط التموجات يُنشر ما يسمى تصريح إبرلان وهو صهيوني يساري كتب “إلى العرب، رسالة مفتوحة من صهيوني” بالطبع كان يريد طرح وجهات النظر الصهيوينة والتقريب بينه وبين العرب، ولكنه قال نوايا الصهيونية الحقيقة ورؤيتها، ومختصرها: أن اليهود لهم حق تاريخي منذ أن اقتلعهم الرومان من وطنهم بالسيف – طبعا يتحدث عن العام 70م – وأن كل يهودي في العالم له حق المواطنة في فلسطين!! وأننا سنعامل العرب بالمثل معاملة عادلة، والخلاصة أن أي مقاومة ستكون فاشلة لأنكم “لن تصطدموا بنا وحدنا، فسوف تجدون في مواجهتكم الحلفاء الظافرين”.

 

وفي نفس الوقت هناك محاولات محمومة من المنظمة الصهيونية لتغيير ديمغرافية فلسطين في أسرع وقت، حيث إن بها 66 ألف يهودي مقابل 573 ألف من غير اليهود (بحسب تقرير كيرزون 1918م).

 

وفي مؤتمر الصلح، وهو المؤتمر الذي تعقده الدول المنتصرة بعد الحرب لتقسيم الغنائم –أيا كانت المسميات – وهو ما تم بالفعل، يقنع لورانس الأمير فيصل بتجنب مسألة فلسطين، وإن كان البعض يتهم الأطراف العربية بالخيانة الآن بناء على توجهاتهم ورؤيتهم، إلا أن من يدرس الأمور بعين فاحصة يفهم جيدا أن دهاة السياسة في الغرب وأن ميزان القوى وأن المصالح المشتركة – سواء واقعيا أو تخيلا- هي التي فرضت نفسها، مع عدم وضوح الرؤية السياسية للجانب العربي، وثقته المفرطة في البريطانيين، والتي لم تكن بمحلها إطلاقا.

 

 

ويستغل الغرب ذلك، فالجانب العربي ينقسم بمن يريد مملكة عربية متحدة كاملة تحت ولايته كالأمير فيصل وعائلته، ومن يريد سوريا –والتي تشمل هنا سوريا وفلسطين ولبنان- مستقلة كالقوميين السوريين، ومن يريد لبنان مستقلا، ومن يريد سوريا الكاملة تحت الانتداب البريطاني حتى لا تنفجر هذه الصراعات، ومن يريدها فرنسية.. إلخ.

 

أما من ناحية فلسطين، فيحدد جوسان ثلاثة اتجاهات سياسية في هذا التوقيت (مؤتمر الصلح)، اتجاه يريد استقلالًا كاملًا، واتجاه مع الأشراف (الهاشميين) باسم الإسلام والعروبة ومعاداة الصهيونية، والفريق الثالث وهو الأكثر عدداً فيطالب بضم فلسطين إلى سوريا.. وهذا الاتجاه يثير قلق بريطانيا لأن سوريا سيحكمها الأمير فيصل تحت نفوذ فرنسي، كما اتفق عليه سابقا.

 

كان مؤتمر الصلح قد اتفق ضمنيا على مبدأ تقرير المصير للأمم التي كانت واقعة تحت الدول المهزومة، ولكن في فبراير 1919م، يكتب بلفور إلى لويد جورج وزير خارجية بريطانيا أنه لا يمكن تطبيق هذا المبدأ على فلسطين، “لأن السكان الحاليين إذا استشيروا فصوف يصوغون دون أدنى شك رفضاً للصهيونية. ومن ثم يجب اعتبار فلسطين ذات وضعية استثنائية بأخذ مصالح جميع يهود العالم بعين الاعتبار”.

 

ويتم إرسال لجنة لبحث لتقصي الأمور على أرض الواقع في سوريا وفلسطين، والنتيجة أن غالبية السكان تطالب باستقلال كامل والبعض يطالب بحماية خارجية ما بين فرنسا وانجلترا والقليل أمريكا، ولكن الجميع يرفض المشروع الصهيوني، حتى أن كينج وكرين، قال في مذكرة رفعها للرئيس الأمريكي ويلسون: “أيا كانت الدولة المنتدبة يتعين عليها استخدام قوة مسلحة إذا أرادت فرض البرنامج الصهيوني”.

 

تبدأ ضربات خطيرة للقوات المنتصرة، فمع انتشار جيوش بريطانيا في ربيع 1919 ينشب تمردات في أيرلندا ومصر وجزر الهند الغربية، وكما يرى هنري لورانس في مثل هذا الظرف الخطير يُحسن مراعاة جانب يهود العالم، يبدو أن ضعف الدول المنتصرة جزء من أسباب نجاح المشروع الصهيوني، عندما نتأمل مقولة لورانس قد نجدها مبالغة، ولكن، د. ريجينا الشريف – كمثال- في كتابها “الصهيونية غير اليهودية” توضح كم تغلغلت الفكرة في أوساط مثقفي وسياسي أوروبا، وبالأخص بريطانيا وفرنسا وأمريكا، أي الدول صاحبة الدور الأكبر في وضع خارطة ما بعد الحرب.

 

 

كانت هناك مراعاة أساسية لمنح الصهاينة نصيب الأسد في الموارد المائية لأنهار الليطاني والأردن واليرموك، والغريب يجري استخدام رؤية توراتية في تحديد الأرض اليهودية، فيُعتمد على النص التوراتي “من دان إلى بئر سبع”، وتُعتمد خرائط صنعها البروتستانتي آدم سميث –وهو ليس عالم الاقتصاد الشهير- الذي أعد خرائط توضح حدود الأرض المقدسة – بناء على التوراة بالطبع – في مختلف العصور، وبئر سبع معروفة لأن هناك مدينة حديثة تحمل اسمها (على أساس أنها تقوم في نفس المكان!!!) أما دان فقد تم تحديدها في قلب منطقة منابع الأردن. دعنا نضيف أن الحدود مع مصر محددة سلفا بسبب مشكلة أزمة طابا مع الدولة العثمانية سابقا. ويتم تغيير حد (سايكس – بيكو) في الحدود إلى خط “دوفيل” هو يراعي أطلس سميث في مواقع ولا يراعيها عن حدود نهر الليطاني.

 

نجد أن سياسة بريطانيا كانت مضطربة في هذه الأثناء، فوفاؤها بتعهدها بوعد بلفور للصهاينة سيضر بكل مصالحها الحقيقية في الشرق الأوسط، دعنا نلقي نظرة سريعة في وسط العام 1919: تقدم القوات اليونانية في الأناضول الذي قاد إلى احتداد المقاومة التركية، وسخط عميق من كل العالم الإسلامي، وسخط السكان في فلسطين على صهيونية تتحول إلى عداوة خطرة للبريطانيين، ومصر تموج بحركات الإضطراب والثورة، ويقوم ضباط عراقيون سابقون في إثارة القلاقل ضد الفرنسيين في الموصل سعيا لحكم ذاتي، وفي كردستان يكثف الكماليون والأفغان والبلاشفة من الأعمال العدائية، ويغرق القوقاز في الفوضى بعد الجلاء البريطاني.. رغم انتصار الحلفاء إلا إننا أمام عالم يموج بالاضطرابات.

11

تحرر وزارة الخارجية البريطانية، بالتشاور مع الصهيونيين، مشروعا أوليا للانتداب على فلسطين في 26 سبتمبر 1919، نصه الأول يحتوي على: الاعتراف بالحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، استعادة تصريح بلفور، إنشاء مجلس مؤقت يمثل يهود فلسطين ويهود بقية العالم، السيطرة على الأوقاف الإسلامية من جانب حكومة فلسطين، قانون حول الجنسية الفلسطينية يسهل فوز المهاجرين اليهود بهذه الجنسية، إلغاء الامتيازات، صون الأحوال الشخصية للمسلمين. يضع مانز تزهاجن خطًا جديدًا على الخريطة – قد يكون الأكثر تعاطفا مع الصهيونية في الجانب البريطاني– لأن خط “دوفيل” لا يضمن موارد مائية كافية لفلسطين، ونلاحظ ميل بريطانيا إلى جانب الصهاينة على حساب العرب الذين حاربوا معهم فعليا الدولة العثمانية وساهموا في انتصارهم بنسبة كبيرة، بل لولا التمرد العربي ما هُزمت الدولة العثمانية في هذه الحرب.

ونشير سريعا إلى معدل هجرات اليهود إلى فلسطين، وهي الهجرات التي كانت تشجع عليها المنظمات اليهودية بالخارج، وأحيانا حكومات الدول، ولكن الأحداث الدولية هي الأكثر تأثيرا. تنقسم الهجرة التي تمت فترة الانتداب البريطاني إلى أربع موجات من الهجرة، بحسب كتاب (ذاكرة أمة – جمال سلامة على – من ص397- 400)

الهجرة الأولى ۱۹۱۹ : ۱۹۲۳

بلغ عدد المهاجرين فيها نحو ٣٥ ألف يهودي، أي بمعدل ثمانية آلاف مهاجراً سنوياً، معظمهم من روسيا ورومانيا وبولندا، إضافة إلى أعداد صغيرة من لتوانيا وألمانيا والولايات المتحدة، بید أن هذه الموجة قد تقلصت بعد ذلك نتيجة الإجراءات والقيود التي وضعها الاتحاد السوفيتي على هجرة اليهود من أراضيه.

الهجرة الثانية ١٩٢٤: ١٩٣٢

في هذه الفترة وصل إلى فلسطين نحو ٨٩ ألف مهاجر يهودي جاءوا في موجات متعددة، معظمهم من الشرائح الاجتماعية الوسطى وأكثر من نصفهم من بولندا، واستغل مهاجرو هذه الموجة رؤوس الأموال الخاصة التي أحضروها معهم لإقامة بعض المشاريع الصغيرة، وبلغ عدد اليهود في فلسطين في نهاية هذه المرحلة قرابة ١٧٥ ألفاً.

الهجرة الثالثة 1933 :  1939

بلغ عدد المهاجرين الذين قدموا في هذه الهجرة إلى فلسطين نحو 215 ألفاً، جاء معظمهم من أقطار وسط أوروبا التي كانت قد تأثرت بوصول النازية إلى الحكم في ألمانيا، التي وصل منها وحدها إلى فلسطين خلال هذه الفترة قرابة ٤٥ ألف مستجلب يهودي ألماني. يذكر أن كلاً من المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية قد عقدتا اتفاقاً مع الحكم النازي بألمانيا، يهدف إلى تسهيل عملية هجرة اليهود من ألمانيا.

الهجرة الرابعة 1939 : مايو 1948

وهي التي تمت أثناء الحرب العالمية الثانية حتى قيام ما سمي بإسرائيل، وجرت عبر طرق مختلفة، إما بالإبحار مباشرة إلى فلسطين أو بالإبحار إلى موانئ محايدة في تركيا والبلقان ثم الانتقال إلى فلسطين بحراً أو براً.

نعود لسرديتنا التي لا نستطيع رصد كل التفاصيل المتشابكة في مساحة صغيرة كهذه، ولكننا نلقي الضوء على النقاط المهمة في تحريك الأحداث قدر الإمكان، ومن ضمن هذه الإشارات البسيطة أن العسكريين البريطانيين في القدس كانوا غالبا ضد المشروع الصهيوني، بل بعضهم عبّر عن فرضه عليهم بواسطة السياسيين، وأسباب ذلك واضحة، هم بالفعل كانوا يحاربون جنبا إلى جنب مع العرب، وبالتالي هناك إحساس بالمشاركة قوي جدا، وهم على أرض الواقع ويرون مدى رفض كل السكان للمشروع وما سينتج عنه من عنف وتوترات، الخلاصة كانت نظرتهم واقعية وليست خيالية مثل السياسيين الذين بعضهم يملك رؤية أيديولوجية، وبعضهم يريد التخلص نهائيا من مشكلات اليهود في العالم، والبعض –وهذا حقيقي جدا– يتبنى القضية لأن له أصدقاء صهاينة لا أكثر ولا أقل.

وكان وايتزمان دائم الشكوى منهم –العسكريين البريطانيين– وفي 1920 تحدث مشاجرات بين السكان واليهود في القدس، وتفيد تقارير فرنسية وشهادة مبشرة بريطانية (السيدة نيوتن) أن اليهود من بدأوا التحرش حيث تشير إلى أن يهوديا بصق على أحد أعلام أو صور الجماعة المسلمة القادمة من الخليل لزيارة دينية، ولكن هذه التظاهرة الدينية أخذت بالفعل طابعًا سياسيًا عندما نادى الجميع أن فيصل ملك العرب، وأيضا شعارات لرفضهم الدولة صهيونية، نذكر ذلك حتى تتضح الأمور، وتقف “الجمعية الإسلامية – المسيحية” في وجه الصهيونية، وتقدم طلبات لمحاسبة الصهاينة الذين يشكلون حكومة داخل الحكومة البريطانية.

وفي سان ريمو 1920 جرى التقسيم الأممي لسوريا إلى (سورية، وفلسطين، ولبنان)؛ وضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، ولأول مرة يتم الاعتراف بحق اليهود في وطن قومي، وتكون هذه اللحظة جوهر تبلور قومية فلسطينية مستقلة تجابه المشروع الصهيوني.

 

12

في 1920 يتم تعيين هربرت صمويل كمندوب سامي بريطاني على فلسطين رغم كل المعارضات العربية، حيث عُرف بدعمه المطلق للصهيونية، ويعلن صمويل أنه سيعمل على تكوين وطن قومي لليهود مع الاحترام الصارم لحقوق غير اليهود!!

 

ويصدر تقرير “بالين” وهو مثل كل تقارير لجان تقصي الحقائق على الأرض – والتي لم يستمع لها الساسة البريطانيين– كان يقر بأن الوجود الصهيوني في المنطقة سيصنع عنفا لا ينتهي، فهو ينفي أن الأرض التي سيسكنها الصهاينة أرضًا خالية من السكان، فالتقرير يقول صراحة “لا توجد أرض شاغرة في فلسطين”، كما أن تصريحات الصهاينة بصُنع “فلسطين يهودية كما أن انجلترا إنجليزية” سوف يؤدي إلى نزاع لا محالة حيث ان فلسطين (عربية) في المقام الأول.

 

يعُقد في ديسمبر 1920 المؤتمر الفلسطيني العربي الثالث في حيفا بتمثيل 46 جمعية إسلامية – مسيحية ومجموعات سياسية، وهدفه الرئيسي إعلان تكوين حكومة وطنية، ورفض الوطن القومي لليهود، وهو لحظة تاريخية هامة في مسار القضية الفلسطينية، فهنا تغلبت الصيغة الفلسطينية للنزعة القومية عن الصيغة العربية الجامعة، ولأن التاريخ مليء بالمصادفات ففي يوم افتتاح المؤتمر العربي وفي المدينة نفسها كان يوم نهاية أعمال مؤتمر العمال اليهودي الذي أسس للاتحاد العام للعمال اليهود “الهستدروت”، وتتمثل مهمته في تمثيل العمال اليهود وحدهم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية.

 

وفي مؤتمر القاهرة الذي يعقده تشرشل، يلتقي زعيم وفد فلسطين موسى كاظم مع القوميين العرب وأيضاً مع إسماعيل صدقي باشا الذي ينصحه بتشكيل حزب سياسي، ولكن لا تكف المناوشات بين الطرفين الفلسطيني (مسلمين ومسيحيين) مع الطرف اليهودي، ففي احتفالية عمالية ينشب صراع – أراه غريبا وعجيبا – بين الاشتراكيين اليهود والصهيونيين في مدينة يافا 1921، ولكن يسقط عربي وسط هذه الاشتباكات، ويهب السكان في موجة عنف وسلب ضد اليهود، مما لا يجعل أمام السلطات البريطانية إلا إجلاء اليهود جميعا من يافا إلى تل أبيب، وتنتقل الإضطرابات إلى نابلس – طولكرم، لتنتهي بحصيلة قتلى 48 عربيًا، 47 يهوديًا. وهنا يكتشف العرب أن بريطانيا عندما جردت السكان من السلاح تركت لليهود أسلحتهم، لقد كانت كل الأحداث ضد التصور البريطاني أنهم في وقت ما يستطيعون العيش بسلام، ومع ذلك استمرت بريطانيا في مخططها.

 

ومن تقرير اللجنة العربية التنفيذية عن الأحداث: “.. إن أهل البلد وقد يئسوا من عدالة العالم المتمدن، سوف يستخفون بالحياة وينتصبون كرجل واحد دفاعاً عن وطنهم ودينهم وشرفهم”، ما أشبه الليلة بالبارحة.

 

يلقي العسكريون البريطانيون المسئولية عن الاضطرابات على انحياز حكومتهم إلى الصهيونية الذي أدى إلى قنوط العرب.

 

يعقد اليهود مؤتمر كارلسباد في تشيكوسلوفاكيا سبتمبر 1921، ولا يأتي بجديد في المخطط الصهيوني ولكن أهم نقطة – من رأيي – هي الاتفاق على تكوين قوة دفاع يهودية مسلحة سرية سيكون لها دور كبير فيما بعد هي “الهاجاناه”، وتتسبب تصريحات وايتزمان التي نقلتها الجرائد للعرب بأنه يعمل على أن تكون فلسطين يهودية في اضطرابات جديدة واكبت ذكرى وعد بلفور.

 

عندما يسافر وفد فلسطيني إلى لندن في العام 1922، نستطيع ان نرصد موازين القوى آنذاك، فكبرى الصحف البريطانية تقف ضد الصهيونية وكذلك العسكريون، ثم إن كل اللجان كانت تقاريرها ضد خلق مشكلة متفاقمة إذا تم تنفيذ وعد بلفور، وكذلك نرى فرنسا والبابا – وهو الموقف الذي يثير قلق وايتزمان – ضد المشروع الصهيونى، ولكن ساسة بريطانيا يمضون قدما رغم كل هذه المعارضات، وهو موقف غريب لمن يراقب الأحداث، (دعنا مستقبلا نحاول بحث أسبابه). والمشكلات لها أسباب واقعية لا أيديولوجية كما يعتقد البعض، فمثلا في نفس العام تهدد الهاجاناة باستخدام العنف ضد اليهود العرب – الذين عاشوا في المنطقة قبل الهجرات الحديثة– وأيضا مشكلة المياه سابقة الذكر تدل على أن المنطقة لا تحتمل هجرات ضخمة فجائية، وكذلك مشكلة تتبع كل حرب وهي ارتفاع نسبة البطالة التي يعاني منها الشرق الأوسط، فلنتخيل مع ذلك هجرة عشرات الآلاف إلى بلد تعاني البطالة بالفعل، لقد كانت هناك أسباب كثيرة واقعية تتجاور مع الشكل العام للمشكلة والذي هو جوهري في ذاته، فهل من الطبيعي أن تهجر جماعة إلى دولة عامرة بالسكان وتجعل ساداتها ومواطنيها يراقبون في صمت؟!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com