من علمك الحكمة يا بوتين؟
قد يتساءل البعض عن سبب تواجد روسيا الكثيف والسافر في سوريا وعن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه إذا ما قررت دول الأطلسي اجتياح سوريا بنفسها بدون فصائلها المحلية من أمثال داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام…ألخ.
وبغض النظر عن مواقف الإدانة أو التأييد لهذا الحضور الروسي وتجاهلا كذلك لتلك التحليلات “العتيقة” التي تنظر للأمر بذات رؤية فترة الحرب الباردة ومفرداتها التي تجاوزها الزمن فإن السياسة التي يتبعها بوتين في المنطقة عامة وفي سوريا بوجه خاص تستحق أن نتأملها لنعرف نحن أيضا أين نضع أقدامنا في ذلك المستنقع الذي تتسع رقعته يوما بعد يوم.
أظن أن بوتين لم يحضر لسوريا حبا في أغنية فيروز “شام يا ذا السيف” أو إعجابا بعبقرية “بشار الأسد” ولا حتى شفاء لغليل القلب من الولايات المتحدة وحليفاتها الأطلسيات أو رغبة في معاندة خططها لإعادة هندسة الخرائط السياسية فيما يعرف بالشرق الأوسط الكبير ….بوتين جاء هنا ليدافع عن روسيا الاتحادية
من أين جاءته تلك الحكمة “بالدفاع عن الحدود فيما وراء الحدود”؟
جاءته من التاريخ الذي نغفل نحن دراسته وتدريسه بالطريقة العلمية الصحيحة ونتغاضى بكل أسف وأسى عن تضيمنه ضمن دوائر صنع القرار وصياغة الاستراتيجيات في بلادنا
لم يجلس بوتين كما كان يفعل مثلا خلفاء بني أمية والعباس للمسامرات مستمعا لأخبار الأقدمين وتلك كانت محمدة عززت من الطابع الإنساني والاستراتيجي لسياسات الخلفاء قبل أن تكون هناك مجالس للدفاع الوطني وما إلى ذلك من أشكال صياغة الاستراتيجيات….
ولكنه قرأ “تقارير” و “دراسات” المراكز الروسية وأجهزة جمع وتحليل المعلومات التي قالت بأن إنهيار خطوط الدفاع المبكرة أمام الخطط الإمبريالية الحديثة ستجعل المواجهة حتمية في داخل روسيا الاتحادية بما تضمه من قوميات شتى بعض منها كالشيشان مثلا هي على لائحة إعادة هندسة الخرائط في المنطقة ويشارك عدد من أبنائها بكل نشاط في “الأعمال الجهادية” ليس فقط داخل روسيا الاتحادية بل وفي البوسنة (سابقا) والعراق والشام وليبيا (حاليا).
وقد عاين الروس حجم الخسائر الاقتصادية والاستراتيجية التي لحقت بهم من جراء موافقة “يلتسين” على الغزو الأمريكي للعراق و”تردد” بوتين في المسألة “الليبية” وبات عليهم أن يفكروا ويتصرفوا بشكل مغاير كليا.
في التاريخ تعلمنا نحن مع “الروس” ذات الدرس أي دافع عن حدودك مبكرا وادعم ما استطعت كل من يشكل خطا أماميا بوجه أعدائك وذلك في القرون العصيبة من السابع إلى التاسع الهجريين (13-15م)
تركنا نحن وهم المغول يزحفون دون أن نسند الأمم التي تلقت موجات غزواتهم ظنا بأنهم سيكتفون أو سيهزمون
تركنا جنكيز خان يقوض مملكة “الخطا” بغرب الصين ثم “خوارزم” في آسيا الوسطى ثم “الإسماعيلية الحشاشين” في إيران لنباغت بأن هولاكو ينحر 800 ألف ببغداد ويعدم الخليفة العباسي دهسا تحت أقدام الخيول وهو ملفوف بواحدة من سجاجيد قصره الفخيمة ولولا هزيمتهم أمام قوة المماليك الفتية في عين جالوت لوجدناهم يسملون أعين “أحمد مظهر” دون أن تفلح صيحات “سلامة” وهو ينادي “يا جهاد” في إنقاذ مصيره.
كانت روسيا معنا في هذا الدرس إذ طرق المغول حدودها الشرقية ثم اجتاحتها الموجة الثانية بقيادة “تيمورلنك” حتى وصل لموسكو ذاتها وترك ذلك الزحف التاريخي بصماته إلى اليوم في عرقيات التتر والشركس والشيشان في قلب روسيا الأوربية.
درس التاريخ الأكبر هو حكمة بيدبا الفيلسوف الهندي “لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض” صحيح أن تكره “الثور الأحمر” ولكنك مأكول بعده إن تركته للأسد
سوريا كما كانت عبر التاريخ “ممر أكثر منه موطن” وعنق زجاجة إن تم اجتيازه فالويل كل الويل للمتماسين معه على الحدود
من علمك حكمة التاريخ يا بوتين؟
هل هو رمسيس الثاني في قادش؟أم قطز في عين جالوت؟ أم هو صلاح الدين في حطين؟ أم كل هؤلاء جميعا وغيرهم
يتبقى أن نعيد النظر في أزمة “سكريبال” على ضوء قيام لندن بدور “حمالة الحطب” في شأن استخدام دمشق للأسلحة الكيماوية وهو ذات الدور الذي قامت به في العراق ثم اعتذر عنه بلير قبل عدة أعوام فالواضح الجلي أن إثارة مسألة “تسميم” الجاسوس الروسي كان هدفها هو “إضعاف روسيا وعزلها” والتمهيد لاستصراخ أوربا ضدها حال حدوث مواجهة عسكرية “شبه مباشرة مع روسيا على الأراضي السورية.
مهما كانت حكمة القول بأن “إبليس حريص” فإن عمله سينكشف لأن تلك إرادة الخالق العزيز العدل