لم يكن تنجيماً ، أو قراءة لأوراق اللعب المسماه بالـ”كوتشينة” ، حينما كان الحديث عن تغيير حاد في العلاقات العربية السورية سيحدث بنهاية العام المنصرم وبدايات العام الجاري ، ولم يكن الهجوم على تلك الرؤية الثاقبة إلا إصراراً لدى البعض على استمرارهم لقراءة كاذبة لواقع حي .
هي ساعاتٌ تفصل ما بين كتابة تلك السطور ، وانعقاد اجتماع بالجامعة العربية على مستوى المندوبين الدائمين سيناقش عودة شغل سورية لمقعدها الأصيل ، والذي كانت الجامعة قد قررت من قبل تركه شاغرا وتجميد عضوية الدولة السورية العضو المؤسس للمنظمة الاقليمية .
إن سورية التي غيرت خارطة العلاقات الدولية ، تفرض اليوم استعادتها للمحيط الرسمي العربي دون طلب منها ، وفي هذا لا يكمن السر، بل هو الانتصار السوري على مؤامرة تشابكت فيها الاطراف وتكاتفت ، تحالفت وتعدلت اجنداتها فاختلفت بها الاتجاهات ، لكن الاتجاه السوري لم يتغيير منذ مارس/آذار 2011 حينما قصت المؤامرة شريطها الدموي .
ثمان سنوات هما عمر بوابة جديدة لفصل من فصول التاريخ ، وكانت سورية بصمودها وانتصاراتها هي العنوان ، فقد راهنت الكثير من القوى على تفكيك الدولة السورية وإحداث تغيير جذري في سياساتها حيال القضايا العروبية والاقليمية والدولية ، غير أن سورية حطمت تلك الأوهام واستمرت على خطاها دون اي تغيير ، فأدركت تلك القوى فشلها وتتغير سياساتها اليوم .
لم تكن خطوات استعادة العلاقات مع الدولة السورية متمثلة في زيارة الرئيس السوداني عمر البشير ولقائه بالرئيس السوري بشار الأسد ، ولا فتح الإمارات قنصليتها في سورية ، فقط ، بل هناك خطوات أخرى حدثت وتحدث في الوقت ذاته ، ولعل من أهم معالم وخطوات ذلك التغيير في العلاقات ، هو ما طرحه البرلمان العربي مؤخرا من دعوة جامعة الدول العربية إلى إعادة تقييم قرارها الخاص بتجميد عضوية سورية وتمكين الحكومة من استعادة مقعدها .
وليس بخافياً على أحد أن البرلمان العربي يترأسه السعودي مشعل بن فهد السلمي ، والذي يعد خروج بيان يحمل اسمه وتوقيعه بمثابه إعلان تغيير في سياسات دولته ، التي ابرزت دوماً العداء للدولة السورية ، كذلك فقد صرح وزير الخارجية الأردني بأهمية عودة سورية للعمل العربي المشترك ، مؤكداً عودة سورية الى حضن الأشقاء ، وأيضا ما تردد من تسريبات للقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط منتصف الشهر الماضي والذي شهد ترتيبات وأليات عودة سورية الى الجامعة ، وهو ما جرى أيضا في لقاء أبو الغيط والمبعوث الفرنسي الخاص بسورية .
أيضا زيارة رئيس الامن الوطني السوري اللواء على مملوك للقاهرة بدعوة من رئيس الاستخبارات المصرية الوزير عباس كامل ، يعد علامة بارزة في استعادة العلاقات ، صحيح أن تلك الزيارة ليست الأولى خلال السنوات الماضية ، وان مصر صرحت دوما بأنها مع الدولة السورية ، ولكنها الزيارة الأولى المعلنة من الجانبين ، ويعد توقيتها وإعلانها في ذلك التوقيت رسالة في سياق التعاون الأمنى الاستخباراتي وفي طريق استعادة العلاقات العلنية .
وفي خطوة مناوءة ، يعمل ما يسمى بالائتلاف السوري المعارض على إجهاض استعادة العلاقات العربية الرسمية مع الدولة السورية، حيث توجه الائتلاف مؤخرا بخطاب رسمي للأمين العام لجامعة الدول العربية يطالبه فيها باعادة تسليمه المقعد السوري وتمكينه من حضور اجتماعات الجامعة ، مستندا الى قرار الجامعة السابق باعتبار الائتلاف هو الممثل لسورية ، لكن هذا المسمى بالائتلاف تجاهل ما يتعرض له هو ومن معه من جماعات متشابهة اطلقت على انفسها “معارضة” ، حيث توقفت تمويلات الخليج التي كانت متدفقة الى تلك الجماعات والشخصيات المعروفة بالاسم والتي لا تمثل اي وجود فعلي على الارض السورية ، وهو ما يعني أن الداعم الخليجي لم يعد بداعم لهم الأن ، حيث يتعرض الائتلاف لازمة مادية، ويشهد ما يطلق عليه تيار الغد لسوري إشكالية في دفع رواتب العاملين والمتعاملين معه.
إنها ساعة التقاط الصور التذكارية مع المنتصر ، ساعة تتبدل فيها الوجوه لترسم ابتسامات ملائكية على تجاعيد شيطانية ، يتبجح فيها البعض متخيلاً ان ما فعله من جرم بالامس قد صار في طي النسيان، لكن ذاكره التاريخ لا تنسى ، وذهنية المنتصر لن تنخدع ، وستظل مدركة لمن تآمر ولمن ظل رفيق درب .
إن المليارات التي ضختها الخزائن الخليجية لدعم التنظيمات المسلحة وتلك المتستره بمسمى المعارضة، من اجل نشر الارهاب الذي طال سورية ومصر والعراق واليمن وليبيا ، لن تستطيع اليوم غسل الايادي التي تلوثت بدماء الابرياء ، ولن يستطيع امراء وملوك الارهاب ان يغيروا من صورهم مهما استخدموا من ادوات التجميل .
إن الحديث الرسمي العربي الأن حول استعادة العلاقات مع سورية، ليس إلا اعترافاً بالانتصار السوري وبهزيمة كافة اطراف المؤامرة ، ولكن يظل ما لم يحسب له البعض حساباً ، وهو الجانب السوري المنتصر ، فهو وحده من يقرر ويضع شروط العودة .