أرض الميعاد
“لا أذكر أنني كتبت شيئا وأنا في حالة من النشوة العقلية كتلك الحالة التي كنت فيها وأنا أؤلف هذا الكتاب، قال (هين) مرة إنه كان يسمع حفيف أجنحة ملاك فوق رأسه عندما كان يكتب بعض أشعاره، لقد سمعت أنا أيضاً حفيفا مماثلا وأنا أؤلف هذا الكتاب، فكنت أعكف على الكتابة كل يوم حتى يهدني الإجهاد”
تيودور هرتزل عن كتابه “الدولة اليهودية“
الكاتب شنودة الأمير
يبدو أنه قدر كل الكتب التي تقود شعوبًا مؤدلجة أن تكون نابعة من مصدر “فوق طبيعي”، لقد تبلورت مشاعر اليهود في العالم قبل ظهور هذا الكتاب لقبول فكرة وطن قومي لهم، فكل تغير سياسي في الشرق أو الغرب يجد اليهود أنفسهم ضحايا له، ومع ظهور القوميات الحديثة تشعبت المشكلة، فاليهودي يريد أن يحيا في هذه الدول بنفس قوانينه وأفكاره التي عاش بها في القرون الوسطى أو على مر التاريخ في عصور جل مختلفة.
لقد كتب كثيرون قبل هرتزل، ووضعوا الخطوط الرئيسية التي سار عليها فيما بعد، أشهرهم موسى هس في كتابه “روما والقدس” 1862، وليو بنيكسر في “التحرر الذاتي” 1882، أما هرتزل فقد كان مجرد مخطط أو مفجر للطاقات الكامنة لدي اليهود، وباعث للأمل في نفوسهم، وتجميعهم حول فكرة واحدة تستحوز على أفكارهم ومشاعرهم، وكان على قناعة شديدة بنجاح مشروعه أو خطته، وبقيام الدولة اليهودية المرتقبة، فهو يتحدث عنها في كتيبه وكأنها حقيقة واقعة.
لقد نقل كتابه المسألة اليهودية من قضية محلية تخص اليهود في الوطن الذي يعيشون، فيه سواء كان روسيا أو ألمانيا أو غيرها، إلى قضية سياسية عالمية، فلم تعد مسئولية مواجهة تلك المشكلة تعود إلى السلطات المحلية في كل بلد على حدة، بل أصبحت مسئولية عالمية على كل دولة مناقشتها ومواجهتها، وإيجاد الحلول لها، والأهم أن الكتاب أصبح دليلًا عمليًا للحركة الصهيونية، ودستوراً لمستقبلها.
يشير هرتزل إلى محاولات روتشيلد وهيرش الفاشلة في فلسطين والأرجنتين على التوالي، فالمزارع التي أنشأها روتشيلد فى فلسطين توقفت بسبب سنة سبتية، أي لا يجب العمل فيها طبقا للشريعة اليهودية، وحقيقة الأمر كان هروب المزارعين اليهود من العمل وتمسك رجال الدين بفرض سيطرتهم لیس إلا، بجانب ظروف عملية محيطة أدت لهذا الفشل.
إن هرتزل يقول إن مشروع نقل أمة من بيئة لبيئة لا يحتاج إلى أموال وتبرعات فقط مهما بلغ حجمها، الفكرة وحدها هى التى تستطيع ذلك، والفكرة هنا هى الدولة: “لقد ظل اليهود يحلمون هذا الحلم الملكي خلال الليالي الطويلة من تاريخهم.. (العام القادم فى القدس) كانت عبارتنا القديمة. المشكلة الآن أن يتحول هذا الحلم إلى واقع حي”.
يبدأ هرتزل بسرد الاضطهادات التي يعانيها اليهود، ويوضح أن العمل ليس فى الاندماج فى مجتمعاتهم شرقا وغربا، ولكن العمل على هجرتهم إلى مكان واحد وتكوين دولة نموذجية، ستجد الإحساس العام دائما لدى هرتزل أن العالم كله يضطهد اليهود: “إن العالم يستفزه ازدهارنا”، وأيضا يتحدث عن يهود العالم كأنهم جنس واحد دائما وهي أسطورة كشف زيفها العلم الحديث والتاريخ أيضا، ويقول: “شخصيتنا القومية مشهورة تاريخيا شهرة لا مراء فيها”، إن العمل مليء بالتعميمات الخاطئة ولكن هدفها هو الوصول لنقطة محدودة: أن الدولة اليهودية هي الحل الوحيد لمشكلة يهود العالم” – بالطبع بعد قيامها مازال اليهود منشرون في كل الدول التي كانوا فيها من قبل- ثم بدأ في وضع خطته لهذه الدولة.
أما مكان هذه الدولة – وهو جوهر المشكلة الآن – فلم يكن محددًا في ذهن هرتزل وهو يكتب، يقول: “وهناك الآن منطقتان موضوعتان في الاعتبار: فلسطين والأرجنتين. ففي كلا البلدين هناك تجارب استعمارية هامة، ولكن على أساس مبدأ خاطئ من التسلل التدريجي لليهود، وهو تسلل من شأنه أن ينتهي نهاية سيئة. إنه يستمر إلى اللحظة التي لا يمكن تجنبها، عندما يشعر السكان المحليون انهم مهددون فيجبرون الحكومة على إيقاف أي تدفق جديد لليهود، وبالتالي فإن الهجرة لا جدوى منها ما لم تقم على أساس من هيمنة مضمونة” وهي الخطة التي تم تنفيذها بنجاح بعد ذلك، ووصلت الهيمنة – والتي كانت مجرد حلم – إلى ما نراه بأعيننا الآن.
قضية مكان أرض الميعاد كانت – على غير المتوقع – قضية ثانوية في الوعي اليهودي آنذاك، لقد بدأ هيرش في صنعها، بمحاولة صنع وطن بديل في الأرجنتين، وخاض روتشيلد التجربة في فلسطين، وعندما رفض السلطان العثماني طلب هرتزل لجأ للبريطانيين عارضا علي تشمبرلين خطة التوطن في العريش (سيناء المصرية) ولكنه رفض نظراً للعلاقات الخاصة التي تربط بريطانيا بمصر، والمكان الذي كاد أن يكون أرض الموعد بالفعل بخلاف فلسطين هو أوغندا، فقد وافق المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد سنة ١٩٠٣ بأغلبية ٢٩٥ صوتاً مقابل ۱۷ صوتاً على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق لدراسة إمكانيات الاستيطان اليهودي هناك، بل إن هيرتزل كان من ضمن المصوتين لصالح المشروع البديل، بل إن ممثلي المستوطنين الصهاينة في فلسطين بالمؤتمر كانوا ممن أيدوا مشروع أوغندا، إلا أن هذا المشروع تم رفضه لاحقاً في المؤتمر الصهيوني السابع سنة ١٩٠٥ بعد أن قدمت لجنة تقصى الحقائق التي أوفدها المؤتمر السادس إلى المنطقة تقريرا سلبياً حول المشروع الاستيطاني المقترح، وبقيت الصفحة الفلسطينية هي الصفحة الرئيسية المفتوحة، وهو ما كان.