امتازت قصص يحيى حقي بالمشهدية ذات التفاصيل التي من السهل والجميل تحويلها إلى مشاهد سينمائية ، وبالفعل فإن بعض كتاباته تحولت إلى أعمال سينمائية لا تنسى، مثل قصة “قنديل ام هاشم”.
فى مجموعته القصصية “دماء وطين” سوف نتقابل مع قصتين قصيرتين هما “قصة فى سجن” و “حياة لص”.
فالمعروف لمن يدقق فى هذه الحقبة الأدبية يجد أن حياة يحيى حقى كانت قطعة موازية زمنياً للأديب العالمى إرنست هيمنجواى ، بل اطال الله عمره عن هيمنجواى قرابة الثلاثين عاماً.
فهناك تناص فى طريقة الوصف لدى حقى يشبه إلى حد كبير دقة الوصف والتفاصيل لدى هيمنجواى.
نجد هيمنجواى فى رائعته “العجوز والبحر” يصف الصياد سنتياجو قائلاً ” كان العجوز جسداً ناحل العود ، توغلت فى قفاه غضون عميقة ، وقد عدت حرقة الشمس فى انعكاساتها على مياه البحر على بشرته عدواناً قاسياً ، فملأت خديه البثور ، فنثرت الكثير منها على جانبي وجهه”
و يحيى حقى يصف الخفير حسنين فى قصة “حياة لص” فيقول ” كان فخر الطابور ، بقامته المرتفعة وصدره العريض و ذراعيه القويتين و جبهته الملساء تلمع حياة وشباباً، وامتاز فوق ذلك بجرأته
فالقارئ الكريم سوف يكتشف صلة القرابة فى الوصف ودقة التفاصيل بين حقى وهيمنجواى بهاتين القطعتين من طريقة وصف كليهما للشخوص.
تعرض حقى فى أدبه إلى بعض أنواع الحيوات ومهن الناس البسيطة وربما حيوات المهمشين. هو الأديب الذى امتهن مهناً عدة ، وعمل فى أماكن متفرقة داخل مصر وخارجها ، و قابل الكثير والكثير من أنواع البشر.
فى ” قصة فى سجن ” و هى قصة قصيرة من مجموعته القصصية سالفة الذكر يتعرض حقى إلى تفاصيل مشهدية عن حياة الغجر ، وكيف كان الناس يشمئزون من هذه النوعية من البشر .
نجد هذا فى بداية القصة حيث أن الشاويش فى السجن يشتم” عليوى “و يشمئز منه؛ لانه ترك أصله و انضم إلى الغجر حباً فى فتاة غجرية قضى معها بعض الأيام فى طريقه حين كان ينتقل بقطيع اغنام ليست ملكه ، بل يقود القطيع لكى يصل به إلى تاجر بالمنيا مقابل أجر مادى.
و لأن يحيى حقى عمل موظفاً حكومياً بمركز منفلوط ، فأخذ يذكر اسماء المراكز والقرى التى مر بها “عليوى” قائداً لقطيعه ، وصولاً لتقاطع طريق قبل وصوله إلى تاجر المنيا.
أيضاً تجد حقى يبرز نقاط الضعف الإنسانية بين سطور أدبه ، فتجد فى “قنديل ام هاشم” الإنسان مسلوب العقل امام شكل من أشكال التدين حينما أظهر فى علاقة البطلة ذات العينين المريضتين، وزيت قنديل ام هاشم.
هنا أيضاً تجد “عليوى” مسلوب العقل بحب غجرية ، تعض على شفتيها من حين لآخر. الغجرية أخذت عقله وشرفه جعلته يسرق و هو الذى لم يمد يداً على شيء ليست خاصته حين خيرته و قالت له سوف امشى ، واتركك ، عليك أن تختار بينى وبين توصيل هذا القطيع ،بكل اسف اختار “عليوى” الذهاب معها ، مسلوب العقل، و ذهب إلى طريق الجبل.
ايضا ، ينوه حقى بين السطور عن العلاقات المعقدة و الحب غير المتكافئ ، فحب شخص أصله فلاح اصيل لغجرية جعله يفقد امانته؛ لأن الغجر كانوا يعيشون على السرقة والنهب ، حتى” عليوى ” بعد أن انضم لهم لم يسلم منهم ، بل سرقوا منه ستين رأساً من الأغنام.
وانتهى به المطاف فى غرفة السجن.
فى قصة “حياة لص” يتعرض حقى إلى تفاصيل فى غاية الأهمية ، يبدأها بتفصيلة عن الريف المصري عندما تفقد الفتاة الريفية سمعتها الطيبة ، لا شيء امامها سوى الموت ، وإن نجت منه تغوص اكثر فى حياة الرذيلة ، وغالباً ما تذهب الى المدينة للاسترزاق بجسدها.
حسنين ابراهيم بطل قصة “حياة لص” مثله مثل “عليوى” بطل “قصة فى سجن” كلاهما ترك الريف و ذهب وراء امرأة لعوب ، ووراء المدينة .ويعقد حقى وجه شبه بين السقوط تحت تأثير امرأة لعوب وسقوط الشخص الريفى تحت تأثير المدينة ، فيقول عن القروى “والمدينة للقروى كالخمر للشارب ، تسحره ، تأسره ، فينقلب عبداً ذليلاً لها ويضع تحت قدميها حياته الوديعة ، الهادئة، ليستبدل بها حياة محمومة ، مضطربة ، و لكن تنتابها بين حين وآخر نوبات سرور.”
لا يفوتك أيها القارئ العزيز ، أن الأديب الرائع يحيى حقى نوّه عن النظرة الدونية للزوجة لدى البعض، فالزوج فى هذه القصة لديه زوجة واولاد ، لكنه يطارد امرأة لعوب من مكان لآخر.
لعل هذا تناص أيضاً مع شخصية سى السيد لدى محفوظ ، فكان البطل المحترم ، لا يعتبر علاقته بالراقصة أو المرأة اللعوب عيباً.
حقى أيضاً ، يرصد تحول فى شخصية حسنين ابراهيم فى “حياة لص”. الخفير الذى يحرس الشارع والمحلات يصادق لص ويتأثر بصداقته ، فيذهب الخفير ليلاً عندما يحتاج المال ويكسر قفل احد المحلات ويسرق منه ، ويبيع المسروقات من أجل المال للمرأة اللعوب التى تغويه وللشراب.
خاتمة.
ادب يحيى حقى اشتهر بجمال اللغة والوصف ومشهدية الصورة التى تحولت بمجهود بعض المخرجين إلى أعمال سينمائية خالدة. واختم مقالي هذا بفقرة وصفية جميلة من قصة “حياة لص ” .
يقول حقى”فإذا تقدم الليل أصبح الشارع مظلماً، صامتاً ، لا حركة فيه ، ترتعش فى أرجائه أضواء المصابيح إذا ضربها الهواء فترقص معها على الجدران اشباح سوداء غريبة.”
الكاتب عونى سيف